فصل: (سورة التوبة: الآيات 86- 89)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة التوبة: آية 78]

{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)}
{سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ} ما أسرّوه من النفاق والعزم على إخلاف ما وعدوه وما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، وتسمية الصدقة جزية وتدبير منعها.

.[سورة التوبة: آية 79]

{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)}
{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} محله النصب أو الرفع على الذمّ. ويجوز أن يكون في محل الجرّ بدلا من الضمير في سرهم ونجواهم. وقرئ: {يلمزون}، بالضم {الْمُطَّوِّعِينَ} المتطوّعين المتبرعين.
روى أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حثّ على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب. وقيل: بأربعة آلاف درهم وقال: كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربى أربعة وأمسكت أربعة لعيالي، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: بارك اللّه لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك اللّه له حتى صولحت تماضر امرأته عن ربع الثمن على ثمانين ألفًا، فقال اللّه عز وجل: {إِلَّا جُهْدَهُمْ} وروى البزار من رواية عمر بن أبى مسلمة عن أبيه عن أبى هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «تصدقوا فانى أريد أن أبعث بعثا فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول اللّه، عندي أربعة آلاف درهم ألفان أقرضها ربى وألفان لعيالي- الحديث» وفيه: «وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من نمر» أخرجه عن طالوت بن عبادة عن أبى عوانة عنه وقال: تفرد طالوت بوصله ثم رواه عن أبى كامل عن أبى عوانة ومن طريقه ابن مردويه وفي المغازي: بأربعة آلاف وقام عاصم بن عدى فتصدق بمائة وسق من تمر فألقاه في الصدقة فتضاحكوا به وقالوا: «إن اللّه لغنى عن صاع أبى عقيل». انتهى وقصة أبى عقيل أخرجها إبراهيم الحربي والطبراني والطبري من رواية خالد بن يسار عن ابن أبى عقيل عن أبيه قال: «بت أجر الجرير على ظهري على صاعين من تمر». الحديث وفي إسناده موسى بن عبدة وهو ضعيف قلت: قصة أبى عقيل أخرجها البخاري من حديث أبى مسعود الأنصارى باختصار وفيه «جاء إنسان آخر بأكثر من ذلك» وفي رواية: بشيء كثير.
وتصدّق عاصم بن عدىّ بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصارى رضى اللّه عنه بصاع من تمر فقال: بت ليلتي أجرّ بالجرير على صاعين، فتركت صاعا لعيالي، وجئت بصاع فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن ينثره على الصدقات، فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلا رياء، وإن كان اللّه ورسوله لغنيين عن صاع أبى عقيل، ولكنه أحب أن يذكر بنفسه ليعطى من الصدقات، فنزلت {إِلَّا جُهْدَهُمْ} إلا طاقتهم. قرئ بالفتح والضم {سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} كقوله: {اللّه يستهزئ بهم} في أنه خبر غير دعاء. ألا ترى إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ}.

.[سورة التوبة: آية 80]

{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)}
سأل عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبىّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم- وكان رجلا صالحا- أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل، فنزلت، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم: «إنّ اللّه قد رخص لي فسأزيد على السبعين» فنزلت {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} وقد ذكرنا أن هذا الأمر في معنى الخبر، كأنه قيل: لن يغفر اللّه لهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، وإن فيه معنى الشرط، وذكرنا النكتة في المجيء به على لفظ الأمر، والسبعون جار مجرى المثل في كلامهم للتكثير، قال علىّ بن أبى طالب عليه السلام:
لَأَصْبَحَنَّ الْعَاصِ وَابْنَ الْعَاصِى ** سَبْعِينَ ألْفًا عَاقِدِى النَّوَاصِى

فإن قلت: كيف خفى على رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه وسلم وهو أفصح العرب وأخبرهم بأساليب الكلام وتمثيلاته، والذي يفهم من ذكر هذا العدد كثرة الاستغفار، كيف وقد تلاه بقوله: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا...} الآية فبين الصارف عن المغفرة لهم حتى قال: «قد رخص لي ربى فسأزيد على السبعين» قلت: لم يخف عليه ذلك، ولكنه خيل بما قال إظهارًا لغاية رحمته ورأفته على من بعث إليه، كقول إبراهيم عليه السلام: {وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وفي إظهار النبي صلى اللّه عليه وسلم الرأفة والرحمة: لطف لأمّته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم على بعض.

.[سورة التوبة: آية 81]

{فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81)}
{الْمُخَلَّفُونَ} الذين استأذنوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم من المنافقين فأذن لهم وخلفهم في المدينة في غزوة تبوك، أو الذين خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان {بِمَقْعَدِهِمْ} بقعودهم عن الغزو {خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} خلفه. يقال: أقام خلاف الحي، بمعنى بعدهم ظعنوا ولم يظعن معهم، وتشهد له قراءة أبى حيوة: {خلف رسول اللّه}. وقيل: هو بمعنى المخالفة لأنهم خالفوه حيث قعدوا ونهض، وانتصابه على أنه مفعول له أو حال، أي قعدوا لمخالفته أو مخالفين له {أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} تعريض بالمؤمنين وبتحملهم المشاق العظام لوجه اللّه تعالى وبما فعلوا من بذل أموالهم وأرواحهم في سبيل اللّه تعالى وإيثارهم ذلك على الدعة والخفض.
وكره ذلك المنافقون. وكيف لا يكرهونه وما فيهم ما في المؤمنين من باعث الايمان وداعى الإيقان {قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا} استجهال لهم، لأن من تصوّن من مشقة ساعة فوقع بسبب ذلك التصوّن في مشقة الأبد، كان أجهل من كل جاهل: ولبعضهم:
مَسَرَّةُ أحْقَابٍ تَلَقَّيْتُ بَعْدَهَا ** مَسَاءَةَ يَوْمٍ أرْيُهَا شِبْهُ الصَّابِ

فَكَيْفَ بِأَنْ تَلْقَى مَسرَّةَ سَاعَةٍ ** وَرَاءَ تَقَضِّيهَا مَسَاءَةُ أحْقَابِ

.[سورة التوبة: آية 82]

{فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82)}
معناه: فسيضحكون قليلا، ويبكون كثيرا {جَزاءً} إلا أنه أخرج على لفظ الأمر، للدلالة على أنه حتم واجب لا يكون غيره. يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا، لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.

.[سورة التوبة: آية 83]

{فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)}
وإنما قال إِلى {طائِفَةٍ مِنْهُمْ} لأنّ منهم من تاب عن النفاق وندم على التخلف، أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين، فأراد بالطائفة: المنافقين منهم {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ} يعنى إلى غزوة بعد غزوة تبوك. و{أَوَّلَ مَرَّةٍ} هي الخروج إلى غزوة تبوك، وكان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم الذي علم اللّه أنه لم يدعهم إليه إلا النفاق، بخلاف غيرهم من المتخلفين {مَعَ الْخالِفِينَ} قد مرّ تفسيره. قرأ مالك بن دينار رحمه اللّه. مع الخلفين، على قصر الخالفين. فإن قلت {مَرَّةٍ} نكرة وضعت موضع المرات للتفضيل، فلم ذكر اسم التفضيل المضاف إليها وهو دال على واحدة من المرات؟ قلت: أكثر اللغتين: هند أكبر النساء، وهي أكبرهنّ. ثم إنّ قولك: هي كبرى امرأة، لا تكاد تعثر عليه. ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة، وآخر مرة. وعن قتادة: ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا قيل فيهم ما قيل.

.[سورة التوبة: الآيات 84- 85]

{وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85)}
روى أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرض رأس النفاق عبد اللّه بن أبىّ بعث إليه ليأتيه، فلما دخل عليه قال: أهلكك حب اليهود.
فقال: يا رسول اللّه بعثت إليك لتستغفر لي لا لتؤنبنى وسأله أن يكفنه في شعاره الذي يلي جلده ويصلى عليه، فلما مات دعاه ابنه حباب إلى جنازته، فسأله عن اسمه فقال: أنت عبد اللّه ابن عبد اللّه. الحباب اسم شيطان. فلما همّ بالصلاة عليه قال له عمر: أتصلي على عدوّ اللّه، فنزلت وقيل: أراد أن يصلى عليه فجذبه جبريل. فإن قلت: كيف جازت له تكرمة المنافق وتكفينه في قميصه؟ قلت: كان ذلك مكافأة له على صنيع سبق له. وذلك أن العباس رضى اللّه عنه عم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لما أخذ اسيرًا ببدر لم يجدوا له قميصًا وكان رجلا طوالا، فكساه عبد اللّه قميصه وقال له المشركون يوم الحديبية: إنا لا نأذن لمحمد ولكنا نأذن لك، فقال: لا، إن لي في رسول اللّه أسوة حسنة فشكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم له ذلك، وإجابة له إلى مسألته إياه، فقد كان عليه الصلاة والسلام لا يرد سائلا، وكان يتوفر على دواعي المروءة ويعمل بعادات الكرام، وإكرامًا لابنه الرجل الصالح، فقد روى أنه قال له: أسألك أن تكفنه في بعض قمصانك، وأن تقوم على قبره، لا يشمت به الأعداء، وعلمًا بأن تكفينه في قميصه لا ينفعه مع كفره، فلا فرق بينه وبين غيره من الأكفان، وليكون إلباسه إياه لطفًا لغيره، فقد روى أنه قيل له: لم وجهت إليه بقميصك وهو كافر؟ فقال: «إنّ قميصي لن يغنى عنه من اللّه شيئًا، وإن أؤمل في اللّه أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب» فيروى أنه أسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وكذلك ترحمه واستغفاره كان للدعاء إلى التراحم والتعاطف، لأنهم إذا رأوه يترحم على من يظهر الإيمان وباطنه على خلاف ذلك، دعا المسلم إلى أن يتعطف على من واطأ قلبه لسانه ورآه حتما عليه. فإن قلت: فكيف جازت الصلاة عليه؟ قلت: لم يتقدم نهى عن الصلاة عليهم، وكانوا يجرون مجرى المسلمين لظاهر إيمانهم، لما في ذلك من المصلحة. وعن ابن عباس رضى اللّه عنه: ما أدرى ما هذه الصلاة، إلا أنى أعلم أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يخادع ماتَ صفة لأحد. وإنما قيل: مات، وماتوا بلفظ الماضي- والمعنى على الاستقبال- على تقدير الكون والوجود، لأنه كائن موجود لا محالة {إِنَّهُمْ كَفَرُوا} تعليل للنهى، وقد أعيد قوله: {وَلا تُعْجِبْكَ} لأنّ تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له وتأكيده، وإرادة أن يكون على بال من المخاطب لا ينساه ولا يسهو عنه، وأن يعتقد أن العمل به مهمّ يفتقر إلى فضل عناية به، لاسيما إذا تراخى ما بين النزولين فأشبه الشيء الذي أهم صاحبه، فهو يرجع إليه في أثناء حديثه ويتخلص إليه، وإنما أعيد هذا المعنى لقوته فيما يجب أن يحذر منه.

.[سورة التوبة: الآيات 86- 89]

{وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)}
يجوز أن يراد السورة بتمامها، وأن يراد بعضها في قوله: {وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} كما يقع القرآن والكتاب على كله وعلى بعضه. وقيل هي براءة، لأنّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد {أَنْ آمِنُوا} هي أن المفسرة أُولُوا الطَّوْلِ ذوو الفضل والسعة، من طال عليه طولا {مَعَ الْقاعِدِينَ} مع الذين لهم علة وعذر في التخلف {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} ما في الجهاد من الفوز والسعادة وما في التخلف من الشقاء والهلاك {لكِنِ الرَّسُولُ} أي إن تخلف هؤلاء فقد نهد إلى الغزو من هو خير منهم وأخلص نية ومعتقدًا، كقوله: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْمًا}، {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ}. {الْخَيْراتُ} تتناول منافع الدارين لإطلاق اللفظ. وقيل: الحور، لقوله: {فِيهِنَّ خَيْراتٌ}.

.[سورة التوبة: آية 90]

{وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)}
{الْمُعَذِّرُونَ} من عذر في الأمر، إذا قصر فيه وتوانى ولم يجدّ: وحقيقته أنه يوهم أن له عذرًا فيما يفعل ولا عذر له: أو المعتذرون بإدغام التاء في الذال ونقل حركتها إلى العين ويجوز في العربية كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها لإتباع الميم. ولكن لم تثبت بهما قراءة، وهم الذين يعتذرون بالباطل، كقوله: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} وقرئ: {المعذرون} بالتخفيف: وهو الذي يجتهد في العذر ويحتشد فيه، قيل: هم أسد وغطفان.
قالوا: إن لنا عيالا: وإن بنا جهدا فائذن لنا في التخلف. وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طىّ على أهالينا ومواشينا، فقال صلى اللّه عليه وسلم: سيغنيني اللّه عنكم. وعن مجاهد.
نفر من غفار، اعتذروا فلم يعذرهم اللّه تعالى: وعن قتادة: اعتذروا بالكذب: وقرئ: {المعذرون} بتشديد العين والذال، من تعذر بمعنى اعتذر، وهذا غير صحيح، لأنّ التاء لا تدغم في العين إدغامها في الطاء والزاى والصاد، في المطوّعين، وأزكى وأصدق. وقيل: أريد المعتذرون بالصحة، وبه فسر المعذرون والمعذرون، على قراءة ابن عباس رضى اللّه عنه الذين لم يفرطوا في العذر {وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} هم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا، وظهر بذلك أنهم كذبوا اللّه ورسوله في ادعائهم الإيمان.
وقرأ أبىّ: {كذبوا} بالتشديد {سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} من الأعراب {عَذابٌ أَلِيمٌ} في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار.